فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}.
اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين، وقال بعضهم: إن المراد به الثريا، وهو مروي عن ابن عباس وغيره، ولفظة النجم علم للثريا بالغلبة، فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجردًا إلا عليها، ومنه قول نابغة ذبيان:
أقول والنجم قد مالت أواخره ** إلى المغيب تثبت نظرة حار

فقوله: {وَالنَّجْمِ}: يعني الثريا. وقوله تعالى: {إِذَا هَوَى}: أي سقط مع الصبح، وهذا اختيار ابن جرير: وقيل النجم: الزهرة، وقيل المراد بالنجم نجوم السماء، وعليه فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كقوله: {وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] يعني الأدبار. وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ والملك صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] أي والملائكة. وقوله: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ} [الفرقان: 75] أي الغرف.
وقد قدمنا أمثلة كثيرة لهذا في القرآن، وفي كلام العرب في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]، وإطلاق النجم مرادًا به النجوم معروف في اللغة، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا ** عدد النجم والحصى والتراب

وقول الراعي:
باتت تعد النجم في مستحيرة ** سريع بأيدي الآكلين جمودها

وعلى هذا القول، فمعنى هوى النجوم سقوطها إذا غربت أو انتثارها يوم القيامة. وقيل: النجم النبات الذي لا ساق له. وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم الجملة النازلة من القرآن، فإنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أنجمًا منجمًا في ثلاث وعشرين سنة، وكل جملة منه وقت نزولاه يصدق عليها اسم النجم صدقًا عربيًا صحيحًا كما يطلق على ما حان وقته من الدية المنجمة على العاقلة، والكتابة المنجمة على العبد المكاتب.
وعلى هذا فقوله: {إِذَا هَوَى}، أي نزل به الملك من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: {هَوَى} يهوي هُويًا إذا اخترق الهوى نازلًا من أعلا إلى أسفل.
اعلم أولًا أن الوقل بأنه الثريا وأن المراد بالنجم خصوصها، وإن اختاره ابن جرير وروي عن ابن عباس وغير واحدن ليس بوجيه عندي.
والأظهر أن النجم يراد به النجوم. وإن قال ابن جرير بأنه لا يصح، والدليل على ذلك جمعه تعالى للنجوم في القسم في قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75]، لأن الظاهر أن المراد بالنجم إذا هوى هنا، كالمراد بمواقع النجوم في الواقعة.
وقد اختلف العلماء أيضًا في المراد بمواقع النجوم فقال بعضهم: هي مساقطها إذا غابت. وقال بعضهم انتثارها يوم القيامة. وقال بعضهم: منازلها في السماء، لأن النازل في محل واقع فيه. وقال بعضهم: هي مواقع نجوم القرآن النازل بها الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري، أن المراد بالنجم إذا هوى هنا في هذه السورة، وبمواقع النجوم في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجمًا فنجمًا، وذلك لأمرين أحدهما أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم، وهو قوله.
{إِنَّهُ لَقرآن كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77- 78]- إلى قوله- {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الواقعة: 80].
والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحًا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ العزيز الرحيم} [يس: 1- 5] وقوله تعالى: {حموالكتاب المبين إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1- 4] وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
والثاني: أن كون المقسم به المعبر عنه النجوم، هوالقرآن العظيم أنسب لقوله بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76]، لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة.
ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}، قال بعض العلماء: الضلال يقع من الجهل بالحق، والغيي هو العدول عن الحق مع معرفته، أي ما جهل الحق وما عدل عنه، بل هو عالم بالحق متبع له.
وقد قدمنا إطلاقات الضلال في القرآن بشواهدها العربية في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعال: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشعراء: 20] وفي سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف: 103- 104] الآية.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه صلى الله عليه وسلم على هدى مستقيم، جاء موضحًا في آيات كثيرة، من كتاب الله كقوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} [النمل: 79] وقوله تعالى: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 67] وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43]. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 4] استدل به علماء اأصول على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجتهد، والذين قالوا إنه قد يقع منه الاجتهاد، استدلوا بقوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم}.
[التوبة: 43] الآية. وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] الآية. وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِين} [التوبة: 113] الآية.
قالوا: فلو لم يكن هذا عن اجتهاد، لما قال: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} الآية. ولما قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى}، ولا منافقة بين الآيات، لأن قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عن الله إلا شيئًا أوحى الله إليه أن يبلغه، فمن يقول: إنه شعر أو سحر أو كهانة، أو أساطير الأولين هو أكذب خلق الله وأكفرهم، ولا ينافي ذلك أنه أذن للمتخلفين عن غزة تبوك، وأسر الأسارى يوم بدر، واستغفر لعمه أبي طالب من غير أن ينزل عليه وحي خاص في ذلك، وقد أوضحنا هذا في غير هذا الموضع.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)}.
المراد بشديد القوى في هذه الآية: هو جبريل عليه السلام، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم علمه هذا الوحي. ملك شديد القوى هو جبريل.
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين:
أحدهما: أن هذا الوحي الذي من أعظمه هذا القرآن العظيم، علمه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من الله.
والثاني: أن جبريل شديد القوى.
وهذان الأمران جاءان موضحين في غير هذا الموضع.
أما الأول منهما وهو كاون جبريل نزل عليه بهذا الوحي وعلمه إياه، فقد جاء موضحًا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 97] الآية. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} [الشعراء: 192- 194]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 14]. وقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ فَإِذَا قرآناهُ فاتبع قرآنهُ} [القيامة: 16- 18] أي إذا قرأه عليك الملك المرسل به إليك منا مبلغًا له عنا فاتبع قرآنه، أي اقرأ كما سمعته يقرأ.
وأما الأمر الثاني، وهو شدة قوة جبريل النازل بهذا الوحي، فقد ذكره في قوله: {إِنَّهُ لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} [التكوير: 19- 20]. وقوله في آية التكوير هذه: {لَقول رَسُولٍ} أي لقوله المبلغ له عن الله، فقرينته ذكر الرسول تدل على أنه إنما بلغ شيئًا أرسل به، فالكلام كلام الله بألفاظه ومعانيه، وجبريل مبلغ عن الله، وبهذا الاعتبار نسب القول له. لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سمعه إلا منه، فهو القول الذي أرسله الله به. وأمره بتبليغه، كما تدل عليه قرينة ذكر السول، وسيأتي إيضاح هذه المسألة إن شاء الله في سورة التكوير. والعلم عند الله تعالى.
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)}.
قد قدمنا بعض الكلام عليه في أول سورة الإسراء.
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سبحانه وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] الآية، وفي مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
{فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن له الآخرة والأولى وهي الدنيا، وبيَّن هذا في غير هذا الموضع كقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} [الليل: 12- 13] وبين في موضع آخر أن له كل شيء، وذلك في قوله: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [النمل: 91]، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة. اهـ.

.تفسير الآيات (26- 30):

قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: فكم من شخص ترونه في الأرض مع أنه في غاية المكنة فيما يظهر لكم لا يصل إلى ربع ما يتمناه، عطف عليه قوله، مظهرًا لضخامة ملكه وأنه لا يبالي بأحد، دالًا على الكثرة: {وكم من ملك} أي مقرب، ودل على زيادة قربه بشرف مسكنه فقال: {في السماوات} أي وهم في الكرامة والزلفى {لا تغني} أي لا تجزي وتسد وتكفي، ولما كان رد الجمع لحال اجتماعهم أدل على العظمة، عبر بما يحتمل ذلك فقال: {شفاعتهم} أي عن أحد من الناس {شيئًا} فقصر الأمر ورده بحذافيره إليه بقوله: {إلا} ودل باثبات الجار على أنه مع ما يحده سبحانه لا مطلقًا فقال: {من بعد أن يأذن} أي يمكن ويريد {الله} أي الذي لا أمر لأحد أصلًا معه، وعبر بأن والفعل دلالة على أنه لا عموم بعد الإذن بجميع الأوقات، وإنما ذلك يجدد بعد تجدد الإذن على حينه وقبل الأمر الباب؟ لعموم العظمة بقوله: {لمن يشاء} أي بتجدد تعلق مشيئته به لأن يكون مشفوعًا أو شافعًا.
ولما كان الملك قد يأذن في الشفاعة وهو كاره، قال معلمًا أنه ليس كأولئك: {ويرضى} فحينئذ تغني شفاعتهم إذا كانوا من المأذون لهم- كل هذا قطعًا لأطماعهم وعن قولهم بمجرد الهوى أي آلهتهم تشفع لهم.
ولما أخبر باتباعهم للهوى ونفى أن يكون لهم من ذلك ما يتمنونه دل على اتباعهم للهوى بقوله موضع {أنهم}: {إن الذين} وأكد تنبيهًا على أنه قول بالغ في العجب الغاية فلا يكاد يصدق أن عاقلًا بالآخرة يقوله بما جرى لهم على قولهم ذلك وأمثاله بقوله: {لا يؤمنون} أي لا يصدقون ولا هم يقرون {بالآخرة} ولذلك أكد قوله: {ليسمون الملائكة} أي كل واحد وهم رسل الله {تسمية الأنثى} بأن قالوا: هي بنات الله، كما يقال في جنس الأنثى: بنات {وما} أي والحال أنهم ما {لهم به} أي بما سموهم به، وأعرق في النفي بقوله: {من علم} ولما نفى علمهم تشوف السامع إلى الحامل لهم على ذلك فقال: {إن} أي ما {يتبعون} أي بغاية ما يكون في ذلك وغيره {إلا الظن}.
ولما كانوا كالقاطعين بأن ذلك ينفعهم، أكد قوله: {وإن الظن} أي مطلقًا في هذا وغيره، ولذلك أظهر في موضع الإضمار {لا يغني} إغناءً مبتدئًا {من الحق} أي الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله، والظن إنما يعبر به في العمليات لا العلميات ولا سيما الأصولية {شيئًا} من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدي أبدًا إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين، فإن المقصود بتحقق الأمر على ما هو عليه في الواقع، وأما الفروع فإن المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه، وهو رده إلى الأصول المستنبط منها لعجز الإنسان على القطع في جميع الفروع، تنبيهًا على عجزه وافتقاره إلى الله ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوته ليكشف له من الأحقاف.
ولما كانوا بعد مجيء الهدى قد أصبروا على الهوى، وكانت هذه السورة في أوائل ما نزل، والمؤمنون قليل، سبب عن ذلك: {فأعرض عن من تولى} أي كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة من ولى {عن ذكرنا} أي ذكره إيانا، فأعرض عن الذكر الذي أنزلناه فلم ينله ولم يتدبر معانيه فلا يلتفت إلى شيء علمه فإنه مطموس على قلبه ولو كان ذهنه أرق من الشعر فإنه لا يؤول إلا إلى شر {ولا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] فإنه ما عليك إلا البلاغ.
ولما كان المعرض في وقت قد يقبل في آخر، دل على دوامه على وجه بليغ بقوله: {ولم يرد} أي في وقت من الأوقات {إلا الحياة الدنيا} أي الحاضرة ليقصده بالمحسوسات كالبهائم في العمى عن دناءتها وحقارتها، ثم ترجم جملتي الإعراض والإرادة بقوله: {ذلك} أي الأمر المتناهي في الجهل والقباحة {مبلغهم} أي نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم، وتهكم بهم بقوله: {من العلم} أنه لا علم لهم لأن عيون بصائرهم عمي، ومرائبها كثيفة مظلمة لا تكشف عن نظر الآخرة التي هي أصل العلوم كلها، ثم علل هذه الجملة بقوله مؤكدًا قطعًا لطمع من يظن أن وعظه وكلامه يرد أحدًا من غيه وإن أبلغ في أمره ودعائه في سره وجهره، وإعلامًا بأن ذلك إنما هو من الله، فمن وعظ له سبحانه راجيًا منه في إيمانه أوشك أن ينفع به كما فعل في وعظ مصعب بن عمير رضي الله عنه فصغى له أسيد بن حضير وسعد بن معاذ- رضي الله عنهما- في ساعة واحدة كما هو مشهور {إن ربك} أي المحسن إليك بالإرسال وغيره {هو} أي وحده {أعلم بمن ضل عن سبيله} ضلالًا مستمرًا، فلا تعلق أملك بأن يصل علمه إلى ما وراء الدنيا، وعبر بالرب إشارة إلى أن ضلال هذا من الإحسان إليه صلى الله عليه وسلم لأنه لو دخل في دنيه لأفسد أكثر مما يصلح كما قال تعالى: {ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} [التوبة: 47] وذلك لأنه جبل جبلة غير قابلة للخير {وهو} أي وحده {أعلم بما اهتدى} أي ظاهرًا وباطنًا. اهـ.